فإذاً: نحن نبين موقف هؤلاء من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: نصوص الوحي، وهل هي عندهم تفيد اليقين أو لا تفيده؟ وما حكم خبر الواحد عندهم؟ ولن نطيل في ذلك ولكننا نستعرض فقط نقلين من نقولهم، ونمثل بمثال واحد من كتاب المواقف .
إن كتاب المواقف له عدة شروح، وهو الكتاب المعتمد في العصور المتأخرة في المذهب الأشعري، وهو مقرر على طلاب كلية أصول الدين وأمثالها في الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، فما فيه ليس كلاماً قد عفا عليه الزمان والفهم، وصاحبه اسمه عضد الدين الإيجي ، وهو متوفى سنة (756هـ)، وقد عاش ما بين (680هـ) و(756هـ) فقد كان مدركاً لزمان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و ابن القيم وكذلك الحافظ ابن كثير وأمثالهم، وما كان له قيمة تذكر بحيث يذكره شيخ الإسلام ويرد عليه مثلاً، وربما إنه لما توفي شيخ الإسلام كان في الأربعين من عمره، ولم يكن قد ظهر له أي أثر في الأمة.
يقول في مبحث الصفات: (المرصد الثاني في تنزيهه -يعني: تعالى- وهي الصفات السلبية، وفيه مقاصد:
المقصد الأول: أنه تعالى ليس في جهة ولا في مكان، وخالف فيه المشبهة).
يقول: إن العقيدة الحقة التي يدين بها أن الله تعالى ليس في جهة ولا في مكان، ونحن نعلم أن هذه الألفاظ مجملة وتحتاج إلى استفصال، فإن أراد أنه ليس في جهة يعني: لا نثبت له العلو، وأراد بالجهة العلو قلنا: هذا خطأ؛ لأننا نثبت لله تعالى العلو، وإن أراد بالجهة أنها المكان المحدود المخلوق قلنا: نعم وهذا منفي، ونحن لا نثبته لله، لكن يجب أن تفصل وتبين وتصف الله كما وصف نفسه، وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه، فتقول: ليس كمثله شيء، ولا تأتي بكلمة مجملة تحتمل الحق وتحتمل الباطل، والمنهج المعروف المقرر في الألفاظ المجملة أننا لا نستخدمها؛ لأن فيها إيهاماً ولأنها تحتمل المعنى الحق والمعنى الباطل، فإذا قالها غيرنا استفسرنا، فإن أراد المعنى الباطل رددنا لفظه ومعناه، وإن أراد المعنى الحق قلنا له: المعنى حق، ولكن عبر كما عبر الكتاب والسنة.
وهذه القاعدة واضحة إن شاء الله، ولا نطيل فيها؛ لأن موضوعنا ليس فيها.
يقول: (وخالف فيه المشبهة) والمشبهة عنده هم أهل السنة والجماعة الذين يبتلون في جميع العصور بالألقاب من قبل أهل البدع وأهل الأهواء والحاقدين على الحق والخير، فلا بد أن يلقبونهم بلقب، وعلى أحسن الأحوال إذا لم يلقبوا فيقال عنهم: حنابلة، ويعنون بالحنابلة أنهم أتباع رجل واحد من الأمة وهو الإمام أحمد وأنهم متشددون، فالحنبلي معناها متشدد عند كثير من الناس، مع أنهم في الحقيقة من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم على ما كانت عليه القرون الثلاثة المفضلة.
فإذاً: لا تهمنا الألقاب والنبز، فالعبرة بالحقائق، وإذا كان اللقب من أهل البدع والأهواء فحري به قول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص            فهي الشهادة لي بأني كامل
ولكن بالنسبة لأفراد أهل السنة والجماعة فإنهم لا يكملون، فالكمال لله وحده، وإنما يكمل المنهج، فهو المنهج الكامل، فإذا جاء ذمهم والطعن فيهم من أهل البدع أو من أهل الأهواء فذلك دليل على كمالهم ولله الحمد، والمراد كمال منهجهم.
يقول: المشبهة خالفوا (وخصصوه بجهة الفوق).
ومعلوم أن الذي قال: إن الله فوق الخلق ليسوا طائفة من الأمة، بل هو الله تعالى حيث قال: (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ))[النحل:50] ولا يلزم منه أي باطل.
وقد وقعت مناظرة بين محمود بن سبكتكين وبين أحد هؤلاء المتكلمين وهو ابن فورك، فلما قال له: ماذا تقول في صفات الله؟ قال: أقول: إن الله في السماء، قال: إذاً يلزمك أن يكون في جهة، وأن يكون متحيزاً ونحو ذلك، وكان السلطان رجل مجاهد محارب لا يدري ما التفاصيل في هذه الأمور، لكن لديه الفطرة السليمة، قال: أنا لا يلزمني شيء، بل يلزم من قال، والذي قال: إنه فوق الخلق هو الله تبارك وتعالى، هل تستطيع أنت أن تلزم الله بشيء؟ فسكت المبتدع، فنحن لا يلزمنا شيء، وليس أهل السنة هم الذين قالوا: إن الله فوق، بل هو تعالى الذي أخبر أنه فوق العالم بدلالة جملة عظيمة من النصوص الصريحة تقارب الألف أو تزيد.